أهل البيت والعلم الحديث
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
في عام (1436هـ) نشرت موضوعي (مدرسة أهل البيت واستقلالها عن الدولة) الذي تجدونه على الرابط
الرابط هنا
في بعض المجموعات الواتسابية فحظي باهتمام جيد، وتفاعل لا بأس به، بين اتفاق واختلاف، وإشكال وسؤال، ونقد ربما غير بناء، وصل إلى درجة أن أحد الأساتذة الذين يعتبرون أنفسهم من الحداثيين والتنويرين اعتبر ما جاء فيه من الإشارة إلى تنوع علوم أهل البيت وتطرقهم لبعض القضايا العلمية، ما هو إلا استحمار للآخرين، واستخفاف بعقولهم، وضحك على ذقونهم، مؤكدا أنه بحث في الموضوع بنفسه فلم يقف لهم صلوات الله عليهم من العلم على شيء، إلا بعض العلوم الشرعية وعلم الكيمياء فقط لا غير!
وكما أجبت حينها على ما طرح حول الموضوع من أسئلة، ورددت على ما أثير حوله من إشكالات، كذلك ناقشت تلك الأطروحة النقدية التي ذهب فيها صاحبها إلى أننا نستخف بعقول المتلقين حين نقول لهم أن أئمة أهل بيت العصمة والطهارة قد تطرقوا إلى المواضيع العلمية، فكان مما قلته في تلك المناقشة لتلك الأطروحة ما يلي:
إن تأكيدنا على أعلمية أئمة أهل بيت العصمة والطهارة، وتنوع علومهم، وامتداده ليشمل كل فن وحقل من فنون العلم وحقول المعرفة، ليس هو من باب الضحك على الذقون، ولا هو استحمار للناس، أو استخفاف بعقولهم، كما أنه ليس مجرد شعارات براقة خادعة نرفعها لإبهار الناس، والتهويل عليهم، كما يزعم الأستاذ (…….) في تعقيبه الغريب العجيب هذا، حيث أكد أن كل ما يقال عن علم الإمام الصادق ما هو إلا استحمار واستخفاف وتهويل وشعارات…إلى أن قطع جازما أنه لم يثبت عنه عليه السلام إلا العلوم الشرعية وعلم الكيمياء، أما ما عداه فهو تهويل وهراء!
والعجب العجاب أنه ليس له من دليل على هذا المدعى العظيم الذي ربما لم يتجرأ عليه أحد قبله، ولن يتجرأ أحد بعده، إلا أنه بحث فما وجد للإمام غير هذين العلمين: الكيمياء والعلوم الشرعية!
وليته يتكرم علينا ويخبرنا كم كتاب قرأ عن أهل البيت وعلومهم، أو يتفضل ويعرفنا بتلك المصادر التي رجع إليها ووقف عليها فرآها تؤكد وتثبت عدم تطرق أهل البيت، -لاسيما صادق القول والعمل منهم- لأي علم من العلوم غير الكيمياء والعلوم الشرعية، حتى استطاع بفضل ذلك البحث والتنقيب اكتشاف هذه الحقيقة الكبيرة، التي خفيت على كل المؤرخين والمترجمين وكتّاب السير عبر كل العصور ، إلى أن كان له قصب السبق في هذا الاكتشاف العظيم!
وليتنا نتواضع قليلا -ولو في بعض المواقف- فنتهم أنفسنا بالتقصير أو القصور قبل أن نسارع في إعطاء الأحكام الجزافية، خصوصا المخالفة للإجماع أو ما هو قريب منه كما في قضيتنا هذه، وليتنا نتعلم المنهج الصحيح للبحث والحوار، ونفهم معنى قاعدة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود) حتى لا نأخذ من عدم وجودنا للشيء دليلا على عدم وجوده، خصوصا في حال رأينا الإجماع أو ما هو شبه الإجماع قائما على تأكيد تلك القضية التي ندعي أننا لم نعثر عليها، كما هو الحال في قضية أعلمية أهل البيت، وتنوع علومهم، لا سيما ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام.
بل ليتنا أثناء البحث والنقد نتخلى عن عواطفنا، ونتجرد من نوازعنا، ونتحلى بالأمانة العلمية في القول، وبالموضوعية ف العرض، إذ أن ذلك من أهم صفات الباحث الجاد، والناقد الصادق، لأن الغرض من البحث أو النقد هو البحث عن الحقيقة، والانتصار لها، والدفاع عنها، والحث على التمسك بها.
وما لم يتجرّد الناقد من عواطفه ونزعاته الذاتية، ويتخلّص من عقدة الانتماء لمذهب معين، أو تيار معين، أو فكر معين، ويجعل همّه الحقيقة فقط، ويكون أمينا صادقا في قوله ونقله، موضوعيا مخلصا في دراسته ونقده، فإنه لن يتمكن من خدمة الحقيقة بصدق وإخلاص، بل ستغلبه نزعته الطائفية، أو عصبيته المذهبية، أو انتماءاته الفكرية، أو مصالحه الشخصية…إلى الانتصار لها على حساب الحقائق، مما يدفعه إلى التدليس والتضليل والمغالطة في الحقائق بما يوهم الاستدلال الصحيح، وفي هذا ما فيه من جريمة كبرى في حق العلم والفكر، وخيانة علمية للحقيقة التي يجب أن تكون هي بغية الباحثين وغاية الناقدين.
كما أن من أبجديات النقد أن يحصر الناقد نفسه في مناقشة المادة المنقودة، وبيان ما فيها من خلل، وكشف ما بها من ضعف، معتمدا المنهج العلمي الأصيل، مقارعا الحجة بالحجة، ضاربا الدليل بالدليل إلى أن تسفر الحقيقة عن وجهها، ويبان الصبح لذي عينين، مبتعدا كل الابتعاد عن تناول صاحب البحث، لا بالتطاول عليه، ولا بتوجيه الاتهامات إليه، فلا ينبزه بلقب، ولا يلمزه بعيب، ولا يحاول صرف ذهن القارىء عن التفكر في الموضوع، والتأمل في الفكرة، بالادعاء على صاحبه والتهويل عليه بأنه يستحمر الآخرين، ويستخف بعقولهم، ويضحك على ذقونهم، بشعارات خادعة…وما شابه ذلك من استدرار عاطفي، وكلام إنشائي عام لا يسمن، ولا يغني من جوع.
فكل هذا ليس من أصول النقد، ولا من آداب الحوار، فما أولانا بالابتعاد عنه، وعدم اللجوء إليه، أو الاتكاء عليه.
وما أود الإشارة إليه والتأكيد عليه الآن، هو أن القول بأعلمية أهل البيت، وتقدمهم العلمي على غيرهم، وخوضهم في كل فن من العلم، وطرقهم لكل باب من أبواب المعرفة، ليس مجرد ادعاء كاذب بهدف استحمار الآخرين، والاستخفاف بعقولهم، والضحك على ذقونهم، وإننا لنقدر القارىء الكريم كل التقدير، ونحترم عقله كل الاحترام، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه في الرأي، لإيماننا بثقافة الاختلاف، وإدراكنا أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، كما أننا على يقين لا يرقى إليه الشك بأن أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أغنياء عن أن ننسب إليهم ما هو غير ثابت لهم بالدليل والبرهان.
وإنما قلنا ما قلنا من تنوع علمهم لما أوقفنا عليه البحث من ثبوت ذلك لهم، حتى أصبح هذا بالنسبة إلينا حقيقة ثابتة، يدركها ويتوصل إليها كل من له أدنى اطلاع على تراثهم العلمي في شتى الحقول والميادين، وهو ما أكده المؤرخون والمترجمون وكتّاب السير، كما تثبته النصوص الإسلامية كتابا وسنة، وخطب وملاحم ومناظرات وحوارات ومناقشات أهل البيت، وسيرتهم العملية، وريادتهم العلمية، وحلقات العلم التي كانوا يعقدونها ويتقاطر عليها طلاب العلم ورواده من شتى الأقطار الإسلامية، والكتب المؤلفة والتي مازالت تؤلف في علمهم المتنوع الغزير…وإلى ما هنالك مما يؤكد هذه الحقيقة الجلية، التي هي أشد وضوحا من الشمس في رائعة النهار.
إننا نستطيع القول أن تطرق أئمة أهل البيت عليهم السلام للقضايا الكونية، والعلوم الطبيعية ثابت بالدليل الحسي الملموس، الذي لا يكذبه إلا من يكذب حواسه، ولا ينكره إلا من ينكر وجود ذاته، فهو عصي على الإنكار حتى بالمكابرة والعناد.
ولهم من ذلك شاهد حس وعيان تراثهم العلمي بما فيه من إشارات إلى قضايا كونية، ومسائل طبيعية، وما ورد عنهم صلوات الله عليهم من رسائل وكلمات في الطب والفلك والرياضيات…وغيرها من العلوم الطبيعية، التي اهتم بها الكثيرون من الكتّاب والباحثين جمعا وتأليفا وتعليقا وترجمة…مما يؤكد لنا تناولهم لهذه القضايا، وتسليطهم الضوء عليها بما لا مزيد عليه.
فنهج البلاغة لأميرها فيه الكثير من هذه الإشارات العلمية المتنوعة التي أشار إليها الأمير في خطبه المتكاثرة.
بل الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين -بالنسبة للمتأمل المتبصر- هي ليست مجرد دعاء ومناجاة وتضرع وبث وشكوى، بل فيها إشارات علمية دقيقة، متعلقة بالكثير من العلوم، يجدها المتتبع في مقاطع كثيرة جدا من أدعيتها المتنوعة.
وهناك رسالة الإمام علي الرضا في الطب النبوي، التي يقال أنها أول رسالة في هذا الموضوع، وتوجد منها نسخ مخطوطة ومطبوعة، ولأهميتها اهتم بها المختصون، وقاموا بدراستها وشرحها حتى زادت شروحها عن السبعة عشر شرحا، ولعل آخر من قام بدراستها وشرحها هو الدكتور محمد علي البار في كتابه (الإمام علي الرضا ورسالته في الطب النبوي)
ودونك (توحيد المفضل) بما يضمه من دروس قيمة في التوحيد ألقاها الإمام الصادق عليه السلام على تلميذه المفضل بن عمر الجعفي الكوفي، حيث تطرق الإمام الصادق فيها إلى الحديث عن الإنسان، والحيوان، والنبات، والفلك، وغير ذلك من العلوم، متخذا من ذلك كله دليلا على وجود الله ووحدانيته سبحانه وتعالى.
وهي دروس أيضا جدا مهمة ورائعة وقيمة، جعلت أهل الاختصاص يهتمون بها ترجمة ودراسة وشرحا وتبيانا، ولعل آخر من قام بشرحها هو محمد الخليلي في كتابه المتكون من أربعة مجلدات: (من أمالي الإمام الصادق)
كذلك لمحمد الخليلي كتاب (طب الإمام الصادق) الذي جمع فيه بعض كلماته في الطب، ونقل بعض مناظراته الطبية، وفيه يقول عن شخصية الإمام الصادق متنوعة العلوم والمعارف: (…فهذه العظمة في شخصية الإمام الصادق عليه السلام لم تكن إلا سرا من أسرار الكتاب، ونورا من أنوار النبوة، وفيضا من فيوضات الإمامة لا غير، ولو كانت مكتسبة لظهر من أساتذته ومعلميه -كما يزعمون- بعض ما ظهر منه، مما ملأ الكتب، وفاضت به الأخبار والأحاديث.
ثم دع ما تقدم وتأمل -منصفا- ثم انظر في أقواله وتعاليمه بعين طالب الحقيقة، فهل تجد لكل من ورد الجزيرة آنذاك من أطباء وحكماء وفلاسفة اطلاعا على آرائه وأقواله، أو إدراكا لما أبانه وأظهره مما لم يدركه العلم في ذلك العصر، ولم يقف العلماء على مغزاه ومرماه إلا بعد قرون متطاولة، وأجيال متعاقبة، وبعد أن مخضتهم التجارب العملية، وأرشدتهم الاكتشافات العلمية إلى معرفة ذلك…)
وكم هناك من الكتب العلمية التي جمعت شذرات من تراثهم العلمي في العلوم الطبيعية والقضايا الكونية، مثل الكتيب الصغير في حجمه الكبير في مادته وعلمه (الإمام علي والعلم الحديث) للعلامة الشيخ محمد جواد مغنية، الذي سلط فيه الضوء على بعض ما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام مقارنا له بما جاء في العلم الحديث.
ودونك كتاب (العلوم الطبيعية في تراث الإمام علي) للدكتور يوسف مروة، الذي جعله في أربعة فصول، الفصل الأول: الدين والعلم، والفصل الثاني: الإمام علي والعلوم الرياضية، والفصل الثالث: الإمام علي والعلوم الفيزيائية، والفصل الرابع: مسائل علمية متفرقة، والذي قال في مقدمته مؤكدا اهتمام الإسلام وقادته العظام بالعلوم الطبيعية، موضحا أن أئمة الدين سبقوا العلماء في ذلك بأشواط بعيدة: (الغاية من جمع هذه المسائل الرياضية والفيزيائية والفلكية أن نثبت لرجال العلم المسلمين وغير المسلمين، الذين يحاربون الإسلام باسم العلوم الطبيعية الحديثة، أن الإسلام دين قائم ويقوم على العلم، وأن أئمة المسلمين وعلى رأسهم الإمام علي عليه السلام كانوا في طليعة العلماء الذين عالجوا الكثير من مباحث العلم ومسائله العويصة، ولنؤكد أن العلم الذي دعا الإسلام إلى طلبه، والذي أقبل المسلمون عليه لم يكن العلوم الدينية والشرعية فحسب، بل دعا إلى طلب العلوم الطبيعية أيضا، وأن تراث الإسلام في حقل العلوم الطبيعية لهو أكبر دليل على ما نقول).
ويمكن للباحثين المنصفين أن يتتبعوا آثار آل محمد في العلم الحديث، وما ورد عنهم صلوات الله عليهم في العلوم الطبيعية والقضايا الكونية، في الكثير من المؤلفات التي تتناول هذا الجانب العظيم من حياتهم العظيمة، مثل كتاب (موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، الجزء السابع تحت عنوان العلم والتعليم والمغيبات) لباقر شريف القرشي، حيث استعرض هناك علوم الإمام علي عليه السلام في الفقه والكلام والفلسفة والحيوان، كما سلط الضوء على ما يتعلق بالعلوم الطبيعية، واستعرض أقوال أو -حسب تعبير العصر- نظريات الإمام علي في علم الفلك والحساب، وعلم الفيزياء، وعلم الطب، وعلم الجيولوجيا…
ودونك كتاب (الإعجاز العلمي عند الإمام الصادق) للسيد إبراهيم سرور، وكتاب (الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب) الذي ترجمه الدكتور نور الدين آل علي، وكتاب (الإمام الصادق ملهم الكيمياء) لمحمد يحيى الهاشمي، وكتاب (الإمام الصادق دراسات وأبحاث) الذي أصدرته المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، بمناسبة انعقاد مؤتمر الإمام الصادق الدولي بدمشق من 26 إلى 28 أيلول 1991م، إلى غير ذك من الكتب والمؤلفات التي تسلط الضوء على هذا الموضوع، وتضم بين دفتيها الشيء الكثير من أقوالهم وما ورد عنهم في هذا المجال، مثل نظريات الإمام الصادق المتعلقة بالكيمياء، والتي ألف حولها تلميذه جابر بن حيان الكتب الكثيرة، ونظريته في أشعة النجوم، وفي الضوء، وفي النور، وفي نشوء الكون والانفجار الكوني، وفي نسبية الزمن، والبعد الزمني، وفي طبيعة الأرض والزلازل والبراكين والماء والأمطار…كما يمكن الرجوع إلى كتب تلامذته وأصحابه، والوقوف على تلك المؤلفات بما تضمه من علوم في شتى الفنون، كلها أخذوها منه عليه السلام، فهي -واقعا- له وليست لهم، إلى غير ذلك مما ورد عنه من أقوال ونظريات ألفت حولها المؤلفات، وكتبت البحوث، وقدمت الدراسات، وكانت محل اهتمام ذوي الاختصاص حتى من علماء الغرب، الذين بهرتهم تلك الشخصية العظيمة بما تحويه من علوم كثيرة وكبيرة سبق بها الإمام الصادق العلم الحديث بمئات السنين.
يقول راجي أنور هيفا في مقاله: (من الآثار العلمية للإمام الصادق): (المتتبع لأخبار الإمام الصادق عليه السلام ولآثاره الفكرية يلاحظ أنه كان عالما بارزا في كل ميادين العلوم والمعارف الدينية والدنيوية)
ثم راح يستعرض شيئا من تلك العلوم والمعارف، مستشهدا عليها، مثبتا لها بنصوص العديد من العلماء الغربيين، إلى أن قال: (…ومن الجدير ذكره أن الهيكلية الفكرية والمنظومة العقائدية عند الإمام الصادق لاقت عظيم الأثر عند الكثيرين من العلماء والمفكرين في العالم الغربي، وقد رأى العديد منهم أنه قد قدم للبشرية جمعاء من العلوم الدينية والدنيوية الشيء الكثير، والذي يعجز القلم واللسان عن وصفه.
ففي عام 1986م في مركز الدراسات العليا التابع لجامعة (ستراسبورغ) اجتمع لفيف من العلماء والمفكرين الغربيين ليقولوا للعالم ما قدمته الطائفة الشيعية للبشرية على امتداد أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة تلك المآثر والمنجزات الفكرية المادية والروحية التي قدمتها عبقرية الصادق للعالم بشقيه الإسلامي الشرقي والمسيحي الغربي.
وقد أجمعت أبحاث ذلك المؤتمر على أن الإمام الصادق كان عبقري عصره دون منازع، وقد أكد أولئك الباحثون والمفكرون مثل البروفيسور (كلود كاهن) أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة ستراسبورغ، والبروفيسور الإيطالي (أنريكو شيروللي) صاحب كتاب علم الاجتماع الإسلامي، والبروفيسور الفرنسي (هنري كوربان) تلميذ المستشرق الشهير (لويس ما سييون) والدكتور (سيد حسن نصر) والبروفيسور (هنري ماسة) مدير قسم الدراسات الشرقية في جامعة ستراسبورغ وعضو المجمع العلمي بدمشق، إضافة إلى عدد آخر من الدارسين والباحثين المتخصصين بدراسة وتحليل الفكر والثقافة الشرقية، لقد أكد كل أولئك على أن للإمام الصادق صولات وجولات في ميادين العلوم الفيزيائية بكافة مجالاتها.
وقد أثبت أولئك العلماء المؤتمرون أن هناك مقولات وأفكارا للصادق ذات علاقة وثيقة بفهم طبيعة الزمان وعلاقته بمفهوم المكان، ونسبية هذين المفهومين المعقدين، هذا بالإضافة إلى كوكبنا من تلك المسافات الشاسعة التي تفصلها عنا…)
إلى آخر ما ذكره راجي أنور هيفا في ذلك المقال مما له علاقة بهذا الموضوع، وكل مطلع يعلم أنه ليس الوحيد في بابه، فكيف لمنصف أن ينكر تطرق آل محمد لتلك العلوم وهي موجودة بين يديه فيما وصل إلينا عنهم صلوات الله وسلامه عليهم؟!
إن آثـارنـا تـدل علـيـنا فاسألوا بعدنا عن الآثار
وإلا فعليكم إنكار ما لا يمكن إنكاره من دلالة الأثر على المؤثر، فإذا كانت البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فكيف لهذا التراث العلمي المتنوع الكبير أن لا يدل على تنوع علوم آل محمد، وأنهم عليهم السلام في كل شيء هم السراج المنير؟!
الخلاصة: إن القول بتنوع علوم أهل بيت العصمة والطهارة، وامتداده ليشمل كل حقول وفنون المعرفة بما في ذلك القضايا الكونية والعلوم الطبيعية بشتى أنواعها ليس مجرد ادعاء مكذوب، ولا هو من الوهم ونسج الخيال، كما أنه لا يدل على الغلو فيهم، ولا على أي شيء آخر مما يرجف به المرجفون، أو يشنّع الجاحدون، وإنما هو حقيقة جلية، لها أدلتها القوية، وبراهينها المتينة، وشواهدها الكثيرة من القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، والتاريخ الإسلامي بما ينقله المؤرخون من سيرة المعصومين عليهم السلام القولية والعملية، بل لها دليلها الحسي الملموس المتمثل في تراثهم العلمي الخالد، الذي رآه ولمسه حتى من لا يدين بدينهم، ولا يعتقد بإمامتهم، ولا يعترف بمقاماتهم الربانية العظيمة، ولا يسلّم بمكانتهم الإلهية الجليلة، كما رأينا في هذا العرض المختصر رغم طوله.
وأن نتنكر لهذا كله، ونتغافل عنه، ونتجاهله بالمرة، ثم نقول: إن القول بتطرق النبي وآله للعلوم الطبيعية استخفاف بالعقول، وضحك على الذقون، وندعي أننا بحثنا بأنفسنا فلم نعثر من ذلك العلم على شيء، وكل ما وجدناه هو تطرقهم للكيمياء والعلوم الشرعية فقط، فليس ذلك من الموضوعية، ولا من الأمانة العلمية في شيء، فشيء من العدل والإنصاف أيها المنصفون!
وحقا كم هو مؤسف ومؤلم أن نكذب بهذه الحقيقة رغم وجود الدليل الحسي عليها، والمتمثل في هذا التراث العلمي الضخم الوارد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم، رغم وقوفنا عليه بأنفسنا، ورؤيتنا له بأم العين، وأشد من ذلك أسفا وأعظم ألما أن يعترف الغربيون لهم صلوات الله عليهم بذلك، رغم أنهم لا يعتقدون بإمامتهم، ولا يعترفون لهم بأي مقام من مقاماتهم الإلهية العظيمة، ثم يتنكر لهذه الحقيقة الجلية، ويحاول تكذيبها، ويستميت في تفنيدها، ليس فقط عموم المسلمين ، بل حتى بعض من هم من شيعتهم وأتباعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!