أقلام

هل علاقات الفرد مع الآخرين كميات ثابتة او موجات ترددية؟

د. عبدالجليل الخليفة

تتحرك الشحنات الكهربائية كالإلكترونات فتولد مجالا كهربائيا. و قد أعتقد علماء الفيزياء فترة طويلة من الزمن ان الإلكترنات جسيمات تتحرك في مدارات حول نواة الذرة. غير أنه ثبت حديثا نتيجة التطور العلمي أن الإلكترنات ليست جسيمات متحركة بل موجات ترددية. و المعروف أن الموجات الترددية تملك ميزات خاصة فهي تتحرك بسرعة الضوء و قد تتداخل فتصبح بناءة او هدامة. و قد يكون تردد الموجة عاليا او منخفضا حسب قوة الشحنة أو الطاقة المتحركة.

دعونا ننقل هذا التطور في فهم الطبيعة الى علم النفس و الإجتماع و نسأل: هل علاقات الفرد مع الآخرين كميات ثابتة او موجات ترددية؟

هناك على الأقل علاقات أربع بين الفرد و الآخرين:

العلاقة الأولى مادية: و هي ليست موجية ترددية بل كمية ثابتة نسبيا، فقد يضاف عمل الفرد المادي الى عمل الآخرين في المصنع او الشركة بناء او هدما او تفاعلا و الناتج هنا مادي محدود بالزمان و المكان. تصور ان مهندسا يعمل مع جيلوجي في شركة لإستكشاف و إنتاج البترول. فهذا العمل التفاعلي يحقق ناتجا و هو النفط او الغاز و هذا الناتج مادي محدود بالزمان و المكان.

العلاقة الثانية فكرية: و هي موجات ترددية، فالفكر يتردد داخل الإنسان بين الفكرة و نقيضها كما يرى هيغل حتى يصل الى الفكرة المطلقة. و الفكر أيضا ينتقل بين الناس في وسائل التواصل الاجتماعي و حركته هذه تسبب ارتدادات تتداخل مع الافكار الآخرى المعارضة و المؤيدة بناء او هدما او تفاعلا فتتخطى حاجز الزمان و المكان و تبقى ارتداداتها طيلة الحياة البشرية.

تصور مثلا أن طبيبا درس الفكر البشري لعلاج مرض السرطان و أكتشف وسيلة جديدة لعلاج هذا المرض أفضل من سابقاتها و نشرها عبر الدوريات العلمية و غيرها. فمن المتوقع أن تولد هذه الفكرة الجديدة موجات ارتدادية في الاوساط العلمية بين مؤيد و معارض و متحمس للوصول الى وسيلة أفضل للعلاج. و سيبقى هذا الناتج الفكري طيلة الحياة البشرية. هذه الموجات ليست مادية بل هي من سنخ الفكرة الصانعة نفسها.

العلاقة الثالثة عاطفية: و هي موجات ترددية. فالشعور البشري قد ينتقل بين الإفراط و التفريط رغبة في الوصول الى التوازن المطلوب. فقد يتردد الفرد مثلا بين الجبن و التهور وصولا للشجاعة. و هكذا في الحب و البغض و الخوف و الرجاء و غيرهم. و حين تشيع هذه العواطف بين الناس عبر الكلام المكتوب او المسموع او الإشارة تصنع موجات ترددية ايجابية او سلبية قد تكون بناءة إن قابلت مثلها من الآخرين او هدامة إن قابلت عكسها، و هذا التموج العاطفي ينتقل عبر فضاء اللاشعور بين البشر. و لعل التصرف الجمعي للبشر من حب و بغض هو أشبه مايكون بالموجة العارمة للعاطفة والتي تكسح كل موجة تخالفها.

و هذا مايفسر الكثير من العواطف الجياشة حينا و يفسر أيضا الكراهية و التمييز التي يمارسها البعض ضد الآخرين بدون وعي او إدراك نتيجة التأثير الجمعي لأسباب غير إنسانية او عقلانية.

العلاقة الرابعة روحية: و هي موجات ترددية أيضا تتعدى الزمان و المكان و تتردد بين القوة و الضعف، فللنفوس كما ورد إقبال و إدبار. فحين تقبل النفوس و تؤدي عملا عباديا مخلصا تؤسس موجة طاقة إيجابية تعبر الزمان و المكان. و تكون هذه الموجة بناءة و قوية إن وافقت مثلها، و لذلك ينصح بالأعمال العبادية الجماعية كصلاة الجماعة و الحج و الدعاء الجماعي لأن ذلك يصنع مجالا روحيا يعرج بالروح الى بارئها في حركة سريعة لايمكن أن تقاس ماديا.

يمكن لنا أن نسنتنج أن الفهم المادي لعلمي النفس و الإجتماع الذي يفترض أن جميع العلاقات الإنسانية و الإجتماعية كميات ثابتة نسبيا هو فهم قاصر يجعل هذين العلمين محدودي الأثر و النتيجة.

إن فهم العلاقة المادية أبسط كثيرا لأنه ثابت نسبيا و يمكن قياسه في حدود الزمان و المكان و هذا مايتم دراسته غالبا و بناء النظريات عليه حاليا. و لكن هذا الفهم يغفل الجوانب الآخرى من هذه العلاقات لأنها أشد تعقيدا. فتفاعل الفرد الفكري و العاطفي و الروحي مع الآخرين ليس ثابتا بل هو موجي ترددي ينتقل بين السلب و الايجاب و القوة و الضعف و يتأثر ايجابا و سلبا بموجات الآخرين. و هذا التموج التفاعلي ليس ثابتا و لايمكن قياسه بيسر و سهولة و إن نجح العلم أخيرا في قياس حركة الدم و الإشارات العصبية في الدماغ. فقد يحب البعض حينا و يبغض حينا آخر و قد يفكر بعمق أحيانا و لايفكر أحيانا آخرى و قد يصفو روحيا فترة ما ثم يقسو قلبه فترة آخرى، و لايمكن للإنسان أن يضع قيمة قياسية دقيقة لدرجة تفاعله هذه. فهذا التفاعل الفكري و العاطفي و الروحي ليس من سنخ التفاعل المادي المحدود بالزمان و المكان و الذي يكون غالبا على وتيرة واحدة و يمكن قياسه ماديا سلبا او ايجابا. و هذا قد يفسر سبب التأخر في تطور العلوم الإنسانية و الإجتماعية و عدم دقتها مقارنة بالعلوم الطبيعية.

و السؤال المهم هو كيف نقيس هذه التفاعلات الموجية الترددية بدقة و ندرس آثارها النفسية و الإجتماعية؟

و كيف يمكن أن نفهم و نطور علمي النفس و الإجتماع بناء على كل التفاعلات سواء المادية الثابتة او الموجية المتحركة؟

و ماهي خصائص التفاعلات الموجية التي يمكن الإستفادة منها لتصحيح الأفكار الخاطئة و علاج المشاكل الإجتماعية و شفاء القلوب القاسية؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى