طريق الحب … حنين وذكريات
سهام البوشاجع
يعد جسر الحب في مدينة آنسي الفرنسية والذي يقطع قناة فاسي ويربط حدائق أوروبا بساحة باكير، واحدا من أشهر الطرق والجسور التي يمشي عليها المحبون والعشاق، إذ يتمتعون بإطلالة 180 درجة تطل على بحيرة بجع كبيرة، ويمتاز بكثرة الأقفال التي يضعها الزوار على جانبية، كرمز من رموز الحب وبصمة تخبر الأجيال أنهم مروا في هذا المكان يوما ما.
وبما أن للحب حكايا غريبة وقصص مشوقة وجسور عديدة، يعد طريق الحسين الذي يقطعه محبوه وعشاقه في كل عام واحدا من صروح الحب الذي لا أقفال تدل عليه، ولا بحيرات تحتويه، ولا أشجار تحده ،أو زهور تتساقط فيه، طريق صحراوي حار جاف يمتد من مدينة النجف الأشرف في العراق وينتهي إلى مدينة كربلاء حيث يصل إلى قلب الحسين (عليه السلام) المدفون فيها، طريق تلتهب أرضه مع تعامد أشعة الشمس عليه، وتزامن أوقات الزيارة في الغالب مع أشهر الصيف اللاهبة، تمشي فيه خطوات لأرجل كبيرة وصغيرة قوية وواهنة ، تخلت عن رفاهية النوم على الأسرة الوثيرة ،وتوسدت خشونة الطريق، زهدت في لذيذ الطعام المعد على الموائد، واكتفت بالوجبات المقدمة على جوانبه، ممن نذر نفسه وقوته وما تملكه لخدمة هؤلاء العشاق.
عن أبي الصامت قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وهو يقول: من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشيا كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ومحى عنه ألف سيئة ورفع له ألف درجة.
بمثل هذه الرواية وبغيرها من الروايات الكثيرة التي تدل على عظيم أجر زيارة الحسين (عليه السلام) في يوم العشرين من شهر صفر أي بعد مرور أربعين يوما على مقتله في واقعة الطف بكربلاء المقدسة على يد الأمويين، يستند الكثير من الناس في أقصى الأرض وأقربها بين مشرقها ومغربها، على فضل هذه الزيارة، ولا يكتفي البعض بقصد الزيارة فقط، إنما يفضل أن يسير طرق الحب والشوق ماشيا على قدميه متخليا عن حب الأنا ،ومندمجا مع روح الجماعة، فالأعداد التي تقدر بالملايين، والتي تمشي في مثل هذه الأيام الحسين عليه السلام، تختلجها مشاعر مختلطة بين الفرح بما من الله عليها ووفقها لهذه الزيارة، وبين الحزن الذي لم ولن تنساه أبدا؛ لما حصل عليه وعلى أهل بيته عليهم السلام في تلك الواقعة والمعركة الدامية والتي أودت بمقتل 70 من أولاده وأصحابه، فضلا عن قصص الأسر ومهانته التي حلت على نسائه وبناته وأخته زينب عليهم صلوات الله وسلامه.
حمل هذا الطريق – ممشى الحسين بين النجف وكربلاء- الكثير من القصص والذكريات منها الحزينة ومنها السعيدة، زمنها ما اندرجت تحت الرعاية الخاصة والكرامة التي عهدت من أهل البيت عليهم السلام، تقول إحدى الزائرات والذين وفقوا للمشي على هذا الطريق: يحملني الشوق والحنين كلما تذكرت خطواتي في ذلك اليوم، كنا بصحبة والدي ووالدتي وأختي الصغيرة، ركبنا الباص في طريقنا من النجف إلى كربلاء، كانت زيارتنا الأولى لم نكن نعرف عن هذه الطرقات شيئا، سوى ما نقرأه في الكتب وما نسمعه من الناس، وما نشاهده على شاشات التلفاز، لا أعلم ما الذي جعلني أخبر والدي بأن يقول لسائق الباص أن يقف، وبأنني أريد النزول أنا وأختي لنمشي مثل هؤلاء الناس الذين كنت أراقبهم من خلال نافذة الباص، وكنا سابقا قد اتفقنا بأننا لن نمشي كوننا لا نعرف الطريق ولم يسبق لنا أن أتينا إلى العراق، كان الباص معدا فقط لكبار السن وممن لا يستطيعون المشي أو لمن لديهم أسبابهم، والفق والدي على طلبي ففرحت لذلك وأخذت أختي ومعنا كرت يحمل عنوان الفندق الذي سنسكنه عند وصولنا، نزلنا تخط أقدامنا ما تخطه تلك الأقدام، وتسعى أرواحنا بمثل ما تسعى إليه، كانت المسافة ليست ببعيدة ولا بالقريبة ،في الحقيقة لا أعرف كم كانت بالضبط، إلا أنني أخذت بيدي أختي ومشينا بعد أن لوحنا لأهلي من خلف الباص بإشارة السلامة والوداع، مرت علينا ساعات طويلة وحل المغرب واختلط الشفق الأصفر حينها بلمعان ذهب قبة الحسين عليه السلام، فغشي عيني جمال أسرني وولج قلبي خفقان لم أعهده في حياتي، اقتربنا شيئا فشيئا من القبة والمسجد، وكانت الجموع غفيرة حالت بين وصولنا إلى هناك، فقررنا الذهاب إلى الفندق أولا ومن ثم نذهب في اليوم التالي بصحبة والدي ووالدتي، وما إن دلفنا أروقة الفندق رأينا والدي في فنائه بانتظارنا وهو يقول لنا: حمدا لله على سلامتكن كنت خائفا عليكن كثيرا، وقال بنبرة الخوف: “أنا لا أعرف كيف سمحتُ لكن بأن تمشون كل هذه المسافة وأنتن لأول مرة تزرن كربلاء، ولا وسيلة اتصال بيننا، ولا أعلم هل كان الطريق آمنا على فتاتين مثلكما أم لا.
حينها فقط أدركت أن من قادنا إلى طريق الحب ذاك، هو الحب، ومن جعل والدي يسمح لنا دون أن يفكر في المخاطر هو أيضا الحب، ووصولنا بسهولة إلى الفندق دون عناء، أيضا كان بالحب ذاته، الحب الذي لا يعرف معناه كتاب أو قصيدة، قفل أو جسر أو بحيرة.
حب من نوع مختلف تمازج بالقلوب العاشقة والوالهة في مواساة قلب الزهراء على مصاب أبنائها عليها وعليهم السلام.