أقلام

هلال عيد كورونا يكشف هشاشة المثقفين

علي الحاجي*

بعد أن كشفت جائحة كورونا الغطاء عن الكثير من الأنظمة المتقدمة والمتطوّرة علمياً ومالياً وحضارياً وأبرزتها عارية أمام أعين البشريّة كأنظمة متهاوية من الداخل، لكنّها كانت تتغطى بستار واهي من القوّة الزّائفة والمناعة المهترئة، إذ سرعان ما ارتبكت هذه الأنظمة وانهارت منظوماتها الصّحيّة والماليّة وصناعاتها المتطوّرة وحتى قيمها ومبادئها التي عاشت تردح بها فترة طويلة من الزّمن تحت وطأة التعامل مع فايروس كورونا.

لكن لم يكن متوقعاً أبدأ أن تكشف جائحة كورونا الغطاء نفسه عن ثقافة البعض في مجتمعنا وخصوصاً من الأشخاص المعروفين بالتفكير المتزن في أغلب الأمور إلا من بعض عثرات الآراء في الجانب الدّيني والتي تصدر بين الفينة والأخرى بمحاولة (تحديث) الدّين بما يتماشى مع الأطروحات الغربيّة الرّنانة، حتى وإن خالف هذا التحديث المزعوم الأصول التي قام عليها هذا الدّين.

بمجرّد أن طفى على سطح التواصل الاجتماعي توقعات الأختلاف في عيد سنة كورونا الحاليّة هذه، حتى اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بنفس نسخ النّقد والتهجم المتكرّرة في بعض الأعوام السّابقة.

إلا أنّ الملاحظ في هذه الأزمة أنّ رجال الدّين المتصدّين بالعادة لمثل هذه الأمور سارعوا وبوقت مبكر لطرح خيارات متنوّعة جداً للمكلف تكفل لأيّ شخص أن (يعيّد) في التوقيت الذي يناسبه.

لقد كانت أراؤهم جديدة على السّاحة وجريئة في نفس الوقت وربما نتجت بسبب عدم تمكّن مجاميع الاستهلال من الخروج لرصد الهلال في المناطق المناسبة.

وحيث أكد جميع المختصّين الفلكيين بشبه استحالة رصد الهلال من منطقتنا الخليجيّة بالعين المجرّدة بسبب الضآلة الشديدة للجسم المضاء من القمر والتي لم تصل الى ١% وحيث لم يسبق أن رصد أيّ هلال بهذه الصّفة بالعين المجرّدة في منطقتنا المعروفة بالأفق الملوّث بعوادم الصّناعات.

وحالما خرجت أوّل الصّور لهذا الهلال الملتقطة من بعض المناظير المحوسبة، أدرك الكل هذه الحقيقة.

الآراء المتنوّعة التي طرحت للمكلف هذه السّنة ابتدأت بطرح سماحة السّيد باقر السّلمان برأي مفاده أن حرمة صوم يوم العيد ليست ذاتية بل تشريعيّة، وبإمكان المكلّف صوم يوم الأحد ويجوز صيام هذا اليوم المشكوك فيه بنيّة رجاء المطلوبيّة، بل نشرت فتوى لآية الله العظمى الشّيخ اسحاق الفيّاض بجواز صومه رجاءا حتى مع ثبوته وهو مبنى السّيد الخوئي -قدّس-.

ومن جملة الآراء المتنوّعة التي طرحت لتسهيل الأمر على المكلّف ما ذكره سماحة الشّيخ علي الدّهنين انه اذا حصل لديك الاطمئنان من قول الفلكيين بوجود الهلال في الأفق بحال يمكن معها رؤيته بالعين المجرّدة، فيجوز لك العمل بهذا الاطمئنان بدون الخروج لرصد الهلال، وأعقب: [في ذمّتي وعلى رأي السيد السيستاني].

بعد كلّ هذه الخيارات المتنوّعة والمتعدّدة، خرجت بيانات لجان الاستهلال المحليّة توضح أنّه لم يتم التمكّن من رصد الهلال بالمنطقة بالعين المجرّدة ويجوز لمن يطمئن برأي آخر العمل بإطمئنانه، ثم خرج بيان بعد غروب الشّمس في غرب أفريقيا وبيان إلحاقي توضيحي بعد غروب الشّمس في أمريكا.

ورغم كلّ هذه التوضيحات والتسهيلات والبيانات والخيارات لا زال بعض المكلّفين متردّدين متذبذبين إلى وقت متأخّر من يوم الأحد ويطلبون رأياً واحداً صريحاً مجمع عليه من رجال الدّين.

أليس هذا طلب تعجيزيّ؟ أليس هذا قصور وتذبذب وتردّد من أفراد المجتمع والمكلّفون أنفسهم؟ وليس تقصيراً من رجال الدّين؟ أليس هذا سوء فهم وتقصير في استخدام الخيارات المتنوّعة التي طرحت مسبقاً؟

العجيب بعد كلّ هذا أن يخرج بعض المثقفين بمقالات أو منقولات عبر التواصل الاجتماعي ليعيدوا فيها نفس الهجوم على رجال الدّين -الذي حصل قبل سنوات- والذين كان خيارهم الوحيد حينها قطع المسافة، ثم يربط هؤلاء المثقفين ذلك بشكل ما بكورونا وذلك لاضافة بعض التحديث على الطرح، بينما كان المؤمّل منهم التوجّه لأفراد المجتمع المتذبذبين المتردّدين والذين لم يريدوا اتخاذ القرار بأنفسهم وأصروا على تحميل المسؤوليّة لرجال الدّين.

وكان المؤمّل من هؤلاء المثقفين أيضاً ملاحظة أن من أوقد هذه البلبلة هم أشباه المثقفين المصرّين على زج قضية الهلال في الجدل الثقافي رغم نجاعة الحلول المطروحة هذه السّنة.

فما هو المطلوب من رجال الدّين أكثر من عرض هذا التنوّع الكبير من الخيارات للمكلّف؟

فإذا كان العيد قضيّة شرعيّة دينيّة فهذا هو الرّأي الشّرعي، وإذا كان قضيّة اجتماعيّة فلماذا يلام عليها رجال الدّين ويتم استهدافهم بهذه الطريقة؟ فليجتمع المثقفون وأصحاب التأثير لاختيار أحد هذين اليومين لهذا الحدث الاجتماعي، وليكن بطريقة مبتكرة وديمقراطيّة حديثة، وبالإمكان تحقيق ذلك عبر الطرح في مواقع التواصل الاجتماعي.

فعلاً جائحة كورونا كشفت الكثير من الأزمات وآخرها أزمة التفكير المحليّة وكيف ننتقص من المنظومة الدّينيّة -نكايةً- حتى في أجلى ابداعاتها.

 

*عضو جمعية هجر الفلكية 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى