المظفر قامة علمية أكاديمياً وحوزوياً ترك برحيله ثغرة لا تُسد
عادل الحسين
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ . وقال عزل وجل: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ . فُجعنا في يوم الخميس ٢٥-١-١٤٤٣هـ الموافق ٢-٩-٢٠٢١م برحيل العلامة الشيخ الدكتور محمود المظفر رضوان الله تعالى عليه، نجل آية الله العظمى الشيخ محمد حسن المظفر قدس سره الشريف، بعد معاناة شديدة مع المرض الذي ألَمَّ به قبل شهرين. وقد وافاه الأجل المحتوم في مدينة الدمام بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ﴿ما قبض الله عالماً إلا كان ثغرة في الإسلام، لا تسد بمثله إلى يوم القيامة﴾، وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها اختلاف الليل والنهار﴾.
برحيل العلامة محمود المظفر رضوان الله تعالى عليه يخسر العالم الإسلامي قامة علمية رائدة في وسط علماء الحوزة العلمية والجامعات الأكاديمية؛ وتخسر المملكة العربية السعودية شخصية أخلاقية عالية حيث جسد أخلاق محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين بأعلى مراتبها مع جميع أطياف المجتمع في المنطقة الشرقية، والمنطقة الغربية من مملكتنا الحبيبة بحكم تواجده في هاتين المنطقتين منذ ثمانينات القرن العشرين الماضي.
تعرفت على العلامة الدكتور الشيخ محمود المظفر في قاعة الدرس، حيث درست على يديه مبادئ القانون في كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة سنة 1989م حينما كنت أدرس متطلبات مرحلة البكالوريوس في علم المحاسبة. علاقتي بالعلامة المظفر في تلك المرحلة علاقة التلميذ المتعطش إلى عِلم أستاذه ذلك العَلَم العيْلم في اختصاصه، والمتبحر في علم القانون.
مع جديته في الدرس وشدته على الطلاب في تحصيل العلم إلا أنه متواضع إلى أبعد الحدود في علاقته مع طلابه. من أحب درسه وطريقة شرحه لا يكل ولا يمل من الاستماع إليه، وهو يتحدث باللغة العربية الفصحى بصوت جهوري وبنبرة عراقية عذبة. وبعد أن أنهيت متطلبات المادة التي درستها عنده، لم أترك فرصة أبدً تجمعني به في بيته أو مكتبه، أو دعوة دُعيت إليها ورأيته فيها إلا وقطفت تلك الفرصة لأنهل من علمه وحكمته وخبرته والاستماع إلى حديثه العذب في ميادين شتى من ميادين المعرفة والحياة. وعندما تخرجت من الجامعة وعملت في معهد الإدارة العامة في الرياض، كلما سنحت لي فرصة الذهاب إلى جدة، كنت أتشرف بزيارته في بيته، إما لوحدي أو مع بعض الأصدقاء الذين يسكنون في جدة.
وقد تشرفت في الثمانينات من القرن المنصرم بإيصال بحوث وترجمات مسابقة الغدير – لمهرجان الغدير الذي كان يُقام سنوياً في مناسبة الغدير بالأحساء – إلى كلٍّ من العلامة الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي رضوان الله تعالى عليه والعلامة الدكتور الشيخ محمود المظفر رضوان الله تعالى عليه، لتحكيمها واختيار البحوث المتميزة لتحديد الباحثين الفائزين الأوائل. وقد تشرفت بإيصال تلك البحوث لسنتين متتاليتين، حيث كان تشجيع البحث العلمي والترجمة في بيعة الغدير من ضمن فعاليات مهرجان الغدير. وكانت مسابقة الغدير تحت إشراف (اللجنة العلمية للبحوث والترجمة) وكان يرأسها الدكتور الشيخ عادل الأمير حفظه الله تعالى. وكانت هذه اللجنة المسؤولة عن اختيار موضوعات المسابقة في كل سنة. وهي تعد حلقة الوصل بين الباحثين والمترجمين، وبين لجنة التحكيم. وتعرض البحوث والترجمات في اليوم التالي للمهرجان ويعلن حينئذ أسماء الفائزين في المسابقة. وكان المهرجان (الحفل) تحت رعاية العلامة آية الله السيد محمد علي العلي قدس الله نفسه الشريفة، الذي كان يرعى كثيراً من الاحتفالات والمهرجانات في محافظة الأحساء الحبيبة. ويقام مهرجان الغدير في حسينية أبي خمسين في الهفوف.
وقد كان العلامة المظفر أحد أعضاء اللجنة السداسية لإعداد الدستور العراقي التي شكلها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني حفظه الله تعالى في عام 2004م، وهي مكونة من ستة أشخاص قد اختارهم بنفسه، وهم: الشيخ هادي الراضي، والدكتور حسين الشهرستاني، وحازم الحسون، والدكتور محمود المظفر، والسيد أبو ماجد، وصفاء الصافي، بشرط أن لا يدخل أي منهم ضمن المرشحين في انتخابات الجمعية الوطنية في مطلع عام 2005م. وقد أخبرني العلامة المظفر ذات مرة في بيته بجدة: أن اللجنة السداسية كلما انتهت من فصل معين من الدستور كانت تعرضه على السيد السيستاني دام ظله. وفي كل مرة يلتقون به لمناقشة الدستور كان السيد السيستاني يُبهر أعضاء اللجنة باتساع اطلاعه، وتبحره في مواد القانون المدني والقانون الدولي، وكأنه عالم مختص فيهما. وكانت اللجنة أحياناً تغير بعض المواد القانونية وفقاً لمرئيات السيد السيستاني حفظه الله تعالى.
العلامة المظفر – بعد تقاعده من جامعة الملك عبدالعزيز في 2007م – رجع إلى النجف الأشرف حيث أعاد فتح جمعية منتدى النشر في النجف الأشرف، وهو أستاذ القانون المدني المشارك بكلية الاقتصاد والإدارة في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة سابقاً، وبالجامعة المستنصرية ببغداد سابقاً. وهو محاضر غير متفرغ في كلية القانون والفقه المقارن بالجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بلندن.
والعلامة المظفر من العلماء الذين جمعوا بين النظام التعليمي الحوزوي، والنظام التعليمي العام والأكاديمي دراسةً وتدريساً، وله دراسات وبحوث علمية مطبوعة ومخطوطة.
مولده ونشأته:
العلامة المظفر هو محمود بن الشيخ محمد حسن بن الشيخ محمد بن عبـد الله بن محمـد بن أحمد بن مظـفّر الصيمري الجـزائري. ولد الدكتور محمود المظفر سنة 1931م في النجف الأشرف في العراق، ونشأ وترعرع في ظل والديه الكريمين. وهو من عائلة المظفر العلمية العريقة المعروفة في النجف الأشرف. والده هو آية الله العظمى الشيخ محمد حسن المظفر (1301هـ – 1375هـ)، من كبار علماء النجف الأشرف ومجتهديها، وله مؤلفات ومصنفات كثيرة. وعمه آية الله الشيخ محمد رضا المظفر، وهو مؤسس جمعية منتدى النشر وكلية الفقه التي تخرج منها كثير من علماء الأمة البارزين في عصرنا الحديث.
التحصيل العلمي:
حصل العلامة المظفر على شهادة البكالوريوس في العلوم الإسلامية واللغة العربية من كلية الفقه التابعة للجامعة المستنصرية ببغداد عام 1962م. وحصل أيضاً على درجة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق بجامعة بغداد سنة 1965م، وحصل على درجة الماجستير في العلوم الإسلامية مقارن بالقانون من جامعة بغداد سنة 1970م. وكان عنوان الرسالة (إحياء الأراضي الموات)، وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة في العلوم الإسلامية مقارن بالقانون المدني بمرتبة الشرف الأولى، وكان عنوان الرسالة (الثروة المعدنية وحقوق الدولة والفرد فيها) سنة 1977م.
الخبرة العملية:
عمل في الجامعة المستنصرية كعضو هيئة تدريس من 30 نوفمبر 1973م، حتى نهاية السنة الدراسية 1982/1983م. وعمل محاضراً في كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1974/1975م.
وعندما ترك العراق سنة 1982م بسبب الأوضاع السياسية، سافر مع عائلته الكريمة إلى جدة حيث يوجد بها بعض بيوتات السادة الحبوبي، وهم أسرة عقيلته الكريمة. وقد عمل في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة عضواً بهيئة التدريس في عمادة شؤون الانتساب، ثم في كلية الاقتصاد والإدارة من عام 1983م حتى عام 2007م. كما عمل باحثاً في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي التابع لجامعة الملك عبدالعزيز عام 1997م. وعمل أيضاً محاضراً غير متفرغ في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية بإنجلترا – لندن من عام 1994م ولمدة لا تقل عن اثني عشر عاماً دراسيّاً.
الكتب والبحوث المنشورة والمقررة في الجامعة:
لقد أثرى العلامة المظفر المكتبة الإسلامية والعربية بالكتب والبحوث العلمية الفريدة في عناوينها، وقد قام أيضاً بتأليف مناهج دراسية في العديد من حقول علم القانون التي تدرس في الجامعة،
ومن إنجازاته الفكرية والعلمية ما يلي:
1. الثروة المعدنية وحقوق الدولة والفرد فيها، طبع مرتين: عام 1990م حيث نُشر من قبل منشأة المعارف بالإسكندرية، وعام 1998م حيث نُشر من قبل دار الحق – بيروت.
2. إحياء الأراضي الموات، طبع مرتين: عام 1971م حيث نُشر من قبل المطبعة العالمية بالقاهرة، وعام 1998م حيث نُشر من قبل دار الحق – بيروت.
3. الرهن التأميني
– الرسمي– حكمه ومحتواه، بحث نشر سنة 1967م من قبل اتحاد المحامين العرب بالقاهرة لدى انعقاد المؤتمر التاسع عام 1967م.
4. مشروعية تدوين الحديث، بحث نشر عام 1980م في مجلة كلية الفقه – الجامعة المستنصرية.
5. مبادئ القانون والالتزامات، كتاب دراسي مقرر على طلبة الانتساب بجامعة الملك عبد العزيز بالاشتراك مع زميل نشر عام 1987 م بجدة.
6. المدخل لدراسة الأنظمة، بالاشتراك مع أساتذة آخرين كتاب دراسي مقرر على طلبة قسم الأنظمة نشر عام 1993م.
7. المقدمة في دراسة الأنظمة، بالاشتراك مع بعض أعضاء هيئة التدريس بقسم الأنظمة (القانون) عام 1419هـ.
8. الوسيط في دراسة الأنظمة، بالاشتراك مع بعض أساتذة قسم الأنظمة (القانون) طبع عام 1997م.
9. الملكية والأموال، القسم الثاني، يبحث في الأموال وتقسيماتها وتطبيقات حق الملكية: مذكرات خاصة بطلاب قسم الأنظمة (القانون).
10. الإرادة المنفردة ودورها النظري في تكوين الالتزام (دراسة قانونية)، بحث منشور في مجلة جامعة الملك عبد العزيز – كلية الاقتصاد والإدارة.
11. الإرادة المنفردة في مجالها التطبيقي (دراسة قانونية مقارنة بالفقه الإسلامي)، بحث مقبول للنشر في مجلة كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية في العددين الثالث والرابع لعام 1996م.
12. عقد البيع، بحث مقارن بين المذاهب الإسلامية والقانونية منشور في مجموعة معدة لنشر بحوث مؤتمر دمشق بتاريخ 1999م تحت عنوان (إستراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية).
13. نظرية العقد، دراسة قانونية مقارنة بفقه الشريعة الإسلامية، حيث نُشر من قبل دار حافظ بجدة عام 2002م وأعيد نشره لخمس مرات أخرى.
14. نظرية الإرادة المنفردة وتطبيقاتها القانونية والشرعية، حيث نُشر من قبل دار حافظ بجدة عام 2002م.
15. موانع المسؤولية – دراسة مقارنة بفقه الشريعة، حيث نُشر من قبل دار حافظ بجدة سنة 2002م.
16. المدخل لدراسة أصول الحديث المقارن، نشر عام 2009م.
17. الالتزامات الشرعية الناشئة عن الإرادة المنفردة، بحث فقهي موازن بالقانون الوضعي. نُشر في مجلة المنهاج، بيروت، العدد الثامن، السنة الثانية 1997م.
18. مقدمة الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد للشيخ الطوسي، مطبعة الآداب في النجف 1997م.
كلمة الختام:
من يمتلك هذا الكم الهائل من العلم والفكر والمعرفة، ومن أثرى المكتبة العربية والإسلامية بعطائه المتميز، فرحيله قطعاً خسارة كبيرة للإسلام والمسلمين. فهو قامة علمية متميزة ومنارة علمية مشعة بالعلم والمعرفة.
أعزي نفسي، وأعزي عائلة المظفر وعائلة الحبوبي، وأعزي المجتمع بجميع أطيافه برحيل هذا العالم الفذ.
رحمك الله يا أبا حسن رحمة الأبرار وأسكنك فسيح جناته مع محمد وآله الآخيار، وألهم أهلك وذويك وجميع العلماء وجميع المؤمنين والمؤمنات الصبر والسلوان، إنه سميع الدعاء، قريب مجيب.
– الريشهري، محمد. العلم والحكمة في الكتاب والسنة، ص ٣٥٢. http://shiaonlinelibrary.com/الكتب/1641_العلم-والحكمة-في-الكتاب-والسنة-محمد-الريشهري/الصفحة_314. تم الاطلاع عليه في تاريخ 03/09/2021م.
– المرجع السابق.