معلم بلا رحمة
حليمة بن عطاء
في قصة نقلتها إحدى السيدات الكبار عن تعرضها لموقف في صفها الأول الابتدائي، حيث الدخول إلى حياة دراسية بروح مليئة بالحب والأمل لحياة جديدة، تقول ذلك وهي لازالت ذكرى ذلك الموقف قابع في ذاكرتها وألم مرارته باقٍ حتى اليوم، حيث تلقت صفعة على وجهها من معلمتها وضربات على رأسها! بكراستها التي أدينت عليها بأنها غير كاملة، ليأتِ لها الخبر من معلمتها بعد ذلك بقليل بأنها قد نادت اسمها بالخطأ!
واليوم نرى صورا لمعلم في مدينة حفر الباطن يصفع طالبا لديه يمينا وشمالا ويجرجره من ثوبه تارة هنا وتارة هناك، في مقطع استغرق من المُشَاهِد دقائق قليلة لكي يراه وساعات طويلة لكي يتشافى من ألم وهول ما رآه!
ويعلم الله وحده منذ متى وهو يصفع ويعنف في ذلك الطفل!
يا ترى كيف يمكن للإنسان أن يتجرد من إنسانيته ليتحول إلى وحش لا يمكننا وصفه سوى بأنه شيطان تمثل في جسد إنسان؟!
كم رأينا صورا شبيهة لهذا العنف في مختلف الأماكن والأفراد على مستوى العالم، فمرة يأتينا في صورة أم، ومرة في صورة أب، أو جد وجدة، عم وعمة، خال وخالة، أخ، أخت، جار، صديق! بل وحتى معلم!
معلم هو مربيا للأجيال! يفترض به أن يأخذ بأيدي تلاميذه ليرتقي بهم ويرشدهم إلى سلم النجاح!
لا الفشل
لا الانكسار
لا الخذلان
لا الوحشية ذاتها!
فإذا كان المربون في دوحة العلم يقومون بتلك الشرور وتحت منابر التعليم، فكيف سيكون شكل الربائب، وأبناء المستقبل؟!
هل نتوقع منهم أن يكونوا أسوياء فيتألمون في لحظة الألم ليشفوا مباشرة بعد ذلك ويفتحون في نفوسهم صفحة جديدة فينسون تماما ما قد مضى؟!
إننا نتوهم حقا لو كنا نفكر بتلك الطريقة!
وهذا لا يعني بأن يكون لدينا وأبنائنا هشاشة أمام كل موقف يتعرضون له، فبطبيعة الحال أن مالا يكسرك فهو يقومك، ولكن، ماهي الحدود التي لا توصل لحد الكسر؟!
نجد في بعض الدراسات تشير إلى تعرض ما بين 500 مليون و1.5 بليون طفل للعنف سنوياً. ويقدر عدد الأطفال الذين يشهدون العنف المنزلي في كل عام بما يصل إلى 275 مليون طفل على نطاق العالم. ومعظم الأطفال يتعرضون للعنف من أشخاص هم يعرفونهم، وليسوا غرباء عنهم!
لماذا نسمح للغضب بأن يتحكم فينا إلى تلك الدرجة حتى نفقد السيطرة ونتحول من الشعور والمشاعر إلى اللاشعور فنصبح وحوشا تهدم كل ما يقف في طريقها؟!
كم حذرنا النبي الأكرم من الغضب، فتارة يقول بأنه جمرة من الشيطان، وأخرى يوصي فيها رجلا مرارا عدة: لا تغضب.
وعندما نذهب إلى معجم المعاني نجد أن ضد الغضب هو الحلم، ومعنى الحلم هو الاتزان، الرزانة، الادراك، النبل، النضج، الوقار، الاحترام، اليقظة، الوعي، الذكاء، العقل!
وضد مفردة الحلم هي السفه، الحماقة، الطيش، الغباء، الهبل، الجهل، الخوف، الجبن!
لنجد أن العقل يغيب في لحظة الغضب فيتحول من واعٍ متزن وذكي ومتعقل، إلى سفيه وأحمق وجاهل، ولا يخرج ذلك إلا من جبن في نفسه!
فلو كان المرء نبيلا، لما استخدم قوته وسلطته على من هو أضعف منه.
فيصف الشافعي ذلك في قوله:
يُخاطِبُني السَفيهُ بِكُلِّ قُبحٍ فَأَكرَهُ أَن أَكونَ لَهُ مُجيبا
يَزيدُ سَفاهَةً فَأَزيدُ حِلماً كَعودٍ زادَهُ الإِحراقُ طيبا
أرجوكم ضعوا الكاميرات في الفصول، في ساحات المدارس، في الإدارات المدرسية! وراقبوا مقدمات ذلك العنف، فغالبا ما يبدأ بنظرة، كلمة، سخرية، استهزاء، ولا يصل إلى تلك المرحلة من الوحشية إلا وهو قد اعتاد ممارسة ذلك العنف على طلابه، ليرفع مستوى عنفه في الأخير إلى الضرب والتعذيب.
ومن يقوم بفعل سيئ تجاه الآخرين هو مستحق للعقاب، فلو لم يعاقب لاستمر في سيئاته، ومن أمن العقوبة أساء الأدب، وعندها ستنتقل عدوى تلك السيئة إلى الآخرين.
ولكن قبل عقاب الظالم، اجعلوا لكل مربٍ طريقة تستخرجون منها مكامن نفسيته، وعندما تجدوه يتقبل العنف وصوره، اجعلوا له نصيبا من العلاج قبل أن يكون مسئولا عن أطفال يحكم عليه وإياهم الباب ويغلق، فيخرج أسوء ما لديه فيهم!
خذوا كل ظالم إلى جلسات نفسية وتوصلوا إلى جذور المشكلة لديه، لتتعرفوا على الجانب الذي جعله يتقبل الإيذاء، فهو حتما تعرض لعنف جسدي أو لفظي في صغره حتى توصل إلى تلك القناعة لما كبر!
وبذلك نكون قد عالجنا الظالم وحمينا المظلوم! فنحن قد سئمنا من وجود معلمون بلا رحمة، وبتنا نبحث عن عالم أكثر أمانا لأطفالنا، وما ضاع مستقبل طفل إلا نتاج مربٍ ومعلم بلا رحمة!
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133- 134].
ويقول أيضا: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].
كيف بدأ الله وختم لمن يكظم غيظه ويعفوا ويصفح بالمغفرة، وعندما وصف الله المؤمنون في كتابه قال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].
فقرن الغضب بالعفو والرحمة والمغفرة وهي من صفات الله جل علاه! وحين نتحلى ونتخلق بأخلاق الله يكون لدينا أجمل صورة للإيمان وأكملها وهو الحلم عند الغضب.
بل بإمكاننا تحويل طاقة الغضب إلى عنصر إيجابي، فهذه الطاقة الكبيرة والاندفاع الكبير من الأدرينالين يتحول إلى نعمة ما إذا استخدمت بالطريقة الصحيحة.