حكايةُ العشرةِ الريالات

عقيل المسكين
المسك:
– في المرحلة الابتدائية، بإحدى السنوات وأظنها في إحدى السنتين الأخيرتين الخامسة أو السادسة، (1398هـأو 1399هـ)، كنت في زيارة لجدتي لأُمي (بت علي) في منزلهم بالديرة بجانب بيت الشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي بن الشيخ جعفر، حيث يقع شارع سوق الذهب عند البوابة الجنوبية؛ وذهبت لشراء بعض الحاجيات لجدتي من دكان الحاج هلال مبارك، وعندما دخلت الدكان طلبت من البائع ما أريده بالضبط فطلب من مساعدِهِ أن يُحضرَ المطلوب؛ وبالفعل أحضر لي المطلوب في كيس من الورق، ولم تكن الأكياس البلاستيكية قد ظهرت في تلك السنين الخوالي- قبل خمسين عامًا- واستلمت الكيس من صاحب البقالة هلال مبارك نفسه، وفي الأثناء وأنا واقف عند طاولته الصغيرة وجدت على الأرضية ورقة نقدية من فئة عشرة ريالات، وكأنها تنظر إليّ أنا بمفردي، وتخيّل لي أنها تناديني:
– خذني بِسرعة قبل أنْ يلتفتَ إليّ شخصٌ آخر غيرك.
فتعجبت من كلامها هذا، والتفت يمنة ويُسرة، ثم وضعت قدمي اليمنى عليها حتى لا يراها أحد، وكأنني سمعتها تقول لي مرة أخرى:
– آه آه لا تُؤلمني بقدمك.
وكان الحاج هلال مبارك يتحدث مع العامل المساعد الذي كان يعمل معه في المتجر، ولم يتلفت إليّ وأنا أُنزِلُ يدي اليمنى لالتقاط عشر الريالات ذات الفئة الواحدة، وبعد أن ذهب المساعد لما أمر به الحاج هلال مبارك كنت قد التقطت الورقة النقدية بسرعة ووضعتها في جيبي دون أن ينتبه إليّ أحد، وعندما استلمت الكيس وقمت بسداد القيمة للحاج هلال مبارك، خرجت من البقالة وأنا أمسك بالكيس بيدي اليمنى، وعشرة الريالات في جيبي الأيسر.
عندما وصلت إلى بيت جدتي، سلمتّها كيس الأغراض التي طلبتها، ثم استأذنت بالخروج، ولا أتذكر بعد ذلك ماذا فعلت بالريالات العشر، ولكنني بعد بضع سنوات أتذكر أنني سألت أحد الكِبار في العائلة وقلت له:
– هل عليّ ذنب؟.
فقال:
– أنت كنت صغيرًا ولم تبلغ بعد، وعادةً الأطفال يلتقطون القطع النقدية فيفرحون بها ويضعونها في جيوبهم، ولكن كان من الأفضل أن تسلّم المبلغ للبائع مباشرة فلعل المبلغ سقط بالغلط من أحد المشترين أثناء عملية الشراء دون أن ينتبه، وربما عاد إلى البقالة ليسأل عن هذه النقود التي سقطت منه فيقول له البائع: لم نلاحظ أيّ نقود على أرضية المحل.. فيضيع حق الشخص المشتري.
وتمر سنوات طويلة جدًا على هذه الحادثة، وصاحب البقالة توفّاه الله، ولا أعلم لمن هذه الريالات العشر، لأنني كنت طفلًا لم أبلغ الحلم بعد، وقد سألت أحد أصدقائي من المشايخ:
– يؤنبني ضميري على أخذي لتلك الريالات العشر، فكيف أرضي هذا الضمير الذي يحيا بين ضلوعي؟
– فيجيبني الشيخ بقوله:
“هنا عدة حالات:
1 – أن لا يوجد في المال الملتقط علامة (أي ما يمكن أن يصفه صاحبه إليه) وفي هذه الحالة يجوز للملتقط أن يأخذه لنفسه.
2 – أن يكون في المال الملتقط علامة وكانت قيمته دون الدرهم الشرعي أي 6 / 12 حمصة من الفضة المسكوكة وفي هذه الحالة لا يجب على الملتقط الفحص عن مالكه ولكن [ليس له أيضًا أن يأخذ لنفسه بل يتصدق به على فقير].
3 – أن يكون في المال الملتقط علامة وتكون قيمته درهمًا أو يزيد وفي هذه الحالة يجب على الملتقط المبادرة إلى التعريف به والتحري عن مالكه من تاريخ الالتقاط وإلى تمام الناس كالأسواق أن يكون التعريف به في أماكن تواجد الناس وتجمعها كالأسواق والمحلات العامة والمجالس وغيرها حيث يتوقع وجود صاحبه هناك”.
وأنا بكل صراحة أتعبتني هذه التفصيلات، لذلك سألت شيخًا آخر من باب الاطمئنان، فأجابني باختصار:
– “الطفل غير مكلف فيجب على الولي أن يعرف عنها سنة، أما إذا صرفها الطفل فالولي يضمن قيمتها”.
– تصدّق بالريالات العشر نيابة عن صاحبها مع الضمان، لو سألك أحد عن هذا المبلغ.
– ولكن هذه الحادثة حدثت قبل نصف قرن من الزمان، فمن الذي سيسأل عنها؟
– تصدّق بالمبلغ ففي الصدقة ثواب لصاحب الريالات العشر، وثواب لك أيضًا، فهل تزهد في ثواب الله؟
– لا لا .. سأتصدق إن شاء الله بالمبلغ نيابة عن صاحبها، ولبراءة الذمة، وللحصول على ثواب الله وقبل ذلك رضاه سبحانه وتعالى.
الروائياتي:
– هذه الحالة مرّ بها المئات بل الآلاف، بل الملايين من الأطفال حول العالم وبأساليب مختلفة ومواقف عدَّة عبر التاريخ الإنساني، فهم قد يجدون قطعًا معدنية سقطت من أصحابها بقصد أو دون قصد أثناء تجوُّلاتهم في حاراتهم، وأثناء لعبهم، وأثناء انتقالاهم من مكان إلى مكان في أحيائهم أو قُراهم أو هِجرهم أو بلداتهم أو مُدنهم أو في أماكن استجمامِهم كالشواطئ والحدائق والاستراحات وساحات اللعب والمدارس والمستشفيات والجمعيات والهيئات والمؤسسات ومراكز التسويق الكُبرى والأسواق الشعبية وغيرها من الأماكن؛ وهي كثيرة جداً، وحتى في البراري والجبال وأيّ مكانٍ من الأمكنة التي يتواجد فيها البشر مُستقرين أو غير مستقرين؛ عابرين أو ضاعِنين، وما إلى ذلك.
وقيام الأطفال بالتقاط قطع نقدية ورقية أو معدنية من الطرقات يشعرهم بشيءٍ من الفرح من جرّاء ذلك؛ وهذا الذي التقطوه يُسمى باللقطة – كما هو معروف في المصطلحات الفقهية-؛ فأحيانًا يخبرون أهاليهم بها فيدفعونها لهم ويسألونهم من أين التقطوها؟.. وبالتالي يسألون في ذلك المكان عمّن فقد بعض المال؛ فإذا وجدوا صاحب المال أعادوه إليه، وإذا لم يجدوا أحدًا دفعوا تلك المبالغ صغرت أم كبُرت لِصندوق المفقودات في أقرب مكان من التقاط هذه المبالغ، أو يَتصدّقون بهذه المبالغ نيابة عن أصحابها لدى الجمعيات الخيرية، وفي بعض الأحيان الاطفال صغارًا أو كبارًا يأخذون هذه المبالغ ولا يخبرون آباءهم، ويصرفون المبالغ لشراء الحلويات والكعك والبارد والألعاب، وفي طفولة الكثير من الناس حالات تشابه ذلك.
أما في الأدب العالمي فنجد الكثير من المواقف التي سجلها الأدباء في رواياتهم، وقصصهم، ومسرحياتهم، فهذا الموقف يتكرر لدى كل شعوب العالم على سطح المعمورة، وهذا الموضوع يعكس تصرف الأطفال – في مرحلتهم الأولى حتى السابعة، ومرحلتهم الثانية حتى الرابعة عشر- بساطتهم في التعامل مع المال والفقدان، والشعور بالفرح عند العثور على شيء ذي قيمة، وقد تطرق تشارلز ديكنز أديب الفقراء في روايته “أوليفر تويست” إلى حالات من التقاط الأطفال في هذه الرواية الكلاسيكية لما يجدونه في الطرقات سواء من المال أو من الأشياء العينية التي يشعرون بأن لها قيمة أثناء استخدامها أو بيعها، فتشارلز ديكنز تناول حياة الأطفال الفقراء في لندن، وكيف يمكن أن تُؤدّي الظروف القاسية إلى توجيههم نحو تصرفات غير قانونية، مثل السرقة أو التقاط الأموال من الطرقات. ومع ذلك، نجد أن الرواية تتعامل بشكل عميق مع مفاهيم الأخلاق والبراءة وكيف يمكن أن تتأثر بحياة الشوارع.
أما فيكتور هوغو في روايته الشهيرة “البؤساء” فقد تناول معاناة الأطفال والفقراء، ويتطرق إلى فكرة العثور على المال في الشوارع وكيف يمكن أن يؤثر هذا الحدث على حياة الشخص، فمثلًا الشخصية الرئيسة جان فالجان يسرق قطعة خبز لإطعام عائلته، مما يقوده إلى رحلة طويلة مع الضمير والعقاب.
وكذلك في رواية “توم سوير” لمارك توين، حيث تطرق في هذه الرواية إلى مواقف كثيرة تشبه المثال المذكور لديك أيها (المسك)، حيث يعيش الأطفال مغامرات صغيرة مثل العثور على أشياء ذات قيمة مادية أو معنوية، ويظهر شعورهم بالبهجة الممزوجة بالدهشة والمسؤولية.
هذه المواقف تبرز كيف يتفاعل الأطفال مع محيطهم البسيط بطريقة مليئة بالحيوية، وكيف تنعكس هذه التجارب على نضجهم.
أما في الأدب العربي فها هي “ثلاثية نجيب محفوظ” التي تُعد من أهم الأعمال الأدبية في العالم العربي، يتناول فيها حياة الطبقة المتوسطة والفقيرة في القاهرة، وتظهر بعض المشاهد التي يلتقط فيها الأطفال أشياء من الشوارع، ومنها النقود، ويكون ذلك دائمًا مرتبطًا بحالة الفقر والحاجة، أما طه حسين عميد الأدب العربي فقد رَوى في “الأيّام” وهي سيرته الذاتية وقصة طفولته في الريف المصري، وفيها بعض الأجزاء التي يتطرق فيها لكيفية تعامل الأطفال مع الأشياء التي يجدونها في الطرقات، وقد لا تكون النقود بشكل مباشر، ولكن الحكايات تدور حول البساطة والشعور بالفرح عند العثور على شيء غير متوقع.
أما عن الجانب الأخلاقي في هذا الموضوع فقد أشرت إليه أيها المِسك ففي معظم هذه الأعمال الأدبية التي ذكرتها كأمثلة يتم التركيز على المعنى الأخلاقي من وراء التقاط الأموال أو العثور عليها، مثل ضرورة إعادتها إلى صاحبها أو التصدق بها، خاصة في الأدب العربي والإسلامي، حيث يتضح التأثير الديني على كيفية تعامل الشخصيات مع الأموال المفقودة، ورسوخ هذه الذكرى في ذهنك أيها المسك لعلها من هذا الجانب، وأنت تريد إرضاء ضميرك على كلِّ حال.