التقوى وسيلة الغايات وغاية الوسائل

عماد آل عبيدان
تطرق الأستاذ الخطيب / سعيد العبيدان في محاضرته في الليلة الثانية من شهر رمضان الكريم عن التقوى ومفهومها والذي نستنبط ونخرج منها بهذه المقالة:
ما الإنسان إلا كائن مسافر في عتمة وجوده، يخترق ظلمات المدى نحو شعاع يتلألأ في الأفق البعيد، يحمل بين ضلوعه سرًّا أزليًا حاكته يد القدرة وألقته في كينونته سؤالًا متقدًا: لماذا خُلقنا؟
وهل يُمكن للسائر أن يُدرك وجهته قبل أن يُبصر دربه؟ وهل للطريق أن يُفضي لغير غايته؟
خلقنا الله لا لنكون مجرد أرقام في سِجِلّ الوجود، ولا عابري سبيل على ضفاف الدهور، بل لنرتقي من ظلمة الطين إلى ضياء اليقين، ومن بؤس الأرض إلى رفعة السماء. خلقنا لنُبصر أنفسنا، ونتجاوز مرايا المادة لنُطل على وهج الحقيقة المطلقة: كمالٌ مطلق لا يُنال إلا بالعبودية الخالصة.
لكن شبهةً بائسة تعلّقت بأذهان البعض، حين التبست عليهم الوسيلة بالغاية، فضاعوا في المتاهات يبحثون عن الحقيقة في الظلال، يظنون أن الوصول في ركوب السيارة، بينما السيارةُ محضُ مطية، وأن البلوغ في مجرد أداء العبادة، بينما العبادةُ محض جسر يعبرون به إلى حيث الكمال، إلى حيث النقاء التام، إلى حيث يكون الإنسان إنسانًا كما أراده الله: “فطرة الله التي فطر الناس عليها”.
فأيُّ غاية أعظم من بلوغ الكمال؟ وأيُّ مقام أرفع من مقام من بلغوه؟ محمد وآل محمد، قِبابُ النورِ وأعلامُ العروج، الذين مسّتهم أنامل الحضرة العليا فصاروا فوق القياس والتصور، هم الغايةُ مجسدة، والطريقُ ممهدة، وما بينهما بحر لا يُقطع إلا بسفينة اسمها التقوى.
التقوى ليست إحجامًا عن الحرام وحسب، بل مقامٌ من الوعي الدقيق، يُطلُّ به القلب على مرآة ذاته، فيرى الله في كل حركة وسكنة، فيخشى ألا يُرى الله في عينه، وألا يُسمع الله في لسانه، وألا يُحس الله في يده وبصره وخلجات أنفاسه. التقوى أن تتحول من عبدٍ يُراقب الله بعينه، إلى عبدٍ يُراقب الله بعين الله، فلا يفصل بينك وبين الله حاجبٌ ولا ستر.
ولأنَّ التقوى أعلى الوسائل وأصفاها، اختار الله لها أسرع مسلكٍ وأعظمه أثرًا: الصوم.
الصوم، هذا السر العجيب الذي يُحلق فيه الإنسان فوق غرائزه وشهواته، يُقلّب نفسه بين يديه كطفلٍ مدهوش، يُهذبها، ويُروّضها، ويدفعها للارتقاء.
الصوم ليس مجرد إمساكٍ عن طعامٍ وشراب، بل إمساك عن كل ما يُعكر مرآة القلب.
فاللسان صائمٌ عن الهذيان، والعين صائمة عن الخيانة، واليد صائمة عن البطش، والقلب صائم عن سوء الظن، والروح كلها في صوم أقدس وأعمق: صومٌ عن الغفلة عن الله.
ولذلك، لمّا قال تعالى: “يا أيها الناس اعبدوا ربكم”، لم يكن النداء مجرد دعوة للعابدين، بل خارطة طريق لكل الباحثين عن الكمال. ثم جاء البيان الأوضح: “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”.
التقوى… الغاية التي رسمها القرآن من وراء فرض الصيام، وكأن الله يقول:
إن أردتم الوصول إليّ، فليكن صومكم جسراً، وقلوبكم سفنًا، وعيونكم مرايا لا يحجبها كدرٌ ولا يحجبها زيف.
بل القرآن يُرينا كيف تتشابك العبادة مع التقوى في كل مفصل من مفاصل الحياة، حتى في أدق التفاصيل:
“يسألونك عن المحيض”
ما العلاقة بين الطهر والعبادة والتقوى؟
إنها رحلة الإنسان في مراقبة الله حتى في أخص خصوصياته، فلا ينفصل ظاهرٌ عن باطن، ولا جسدٌ عن روح، ولا عبادةٌ عن يقين.
التقوى ليست حاجةً طارئة، بل زاد المسافر في كل رحلة، فكيف لعاقل أن يخوض بحرَ الأيام دون زاده؟
“وتزودوا فإن خير الزاد التقوى”.
في التجارة، في الأسرة، في السياسة، في العشق، في الخصومة، في السر والعلن… التقوى روح الحياة لا تستقيم حركةٌ ولا نفسٌ دونها.
وهل عجبٌ أن تُشيّب سورةٌ عظيمةٌ رأس النبي؟
شيبتني سورة هود.
لأنها كانت مرآةَ التقوى المطلقة، حيثُ يُصبح الإنسان مقياس نفسه، لا يُرجع البصر إلا ليجد الله فيه، ولا يُطلق السمع إلا ليُصغي لله فيه.
وهنا تكمن العظمة:
لا عبادة بلا غاية، ولا فريضة بلا حكمة، ولا تكليف بلا جمال.
إن الله حين أمر بالصوم، جعله شفاءً للقلوب قبل الأجساد، وجعل الغاية فيه نورًا:
“لعلكم تتقون”.
فلا حُكمٌ في السماء إلا وللأرض منه زاد، ولا فريضة في الدين إلا وللإنسان فيها حياة.
مناشئ التقوى
فمن أين يولد هذا النور في القلب؟
١- من الخوف، خوف العبد من خسران الحضرة، خوفًا ليس ذلًا، بل توقيرًا:
“قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم”.
٢- ومن الرحمة، أن يرى الله بعين رحمته، فيخجل أن يخطو خطوةً لا تُرضي جماله.
٣- ومن الجمال ذاته، أن يُبصر حسن الفعل في الفعل ذاته، لا في الجزاء ولا في العقاب.
هكذا قال عليّ عليه السلام، وهكذا لمس النملة فلم يرضَ أن يُؤذيها… وهكذا قال عمر بن سعد حين انحدر: “ولي في الري قرة عين”.
شتان بين من يرى الله في كل شيء، ومن يرى كل شيء في الله…
شتان بين من يصوم عن الهوى ليُبصر النور، ومن يُفطر على شهوةٍ تُعمي البصيرة
شتان بين من اتخذ التقوى جناحين، وبين من ألقاها في هوة النسيان
فالصوم مدرسة، والتقوى طريق، والغاية: الله.