اختيار حكيم

السيد فاضل آل درويش
لابد أن نتعرّف على حقيقة ومفهوم الصمت بما يخالف ما يخلد في ذاكرتنا بأنه إمساك اللسان فقط، والحقيقة أن الصمت هو حركة وعي ونضج فكري ومعرفة بالعوامل المحيطة بالإنسان كالعامل الزماني والمكاني والظروف المصاحبة للحدث، فالصمت هنا ضبط إيقاع الحركة اللفظية بما يتناسب مع مبدأ الفائدة والإثراء والتأثير، فالصمت له نتائجه المثيرة عندما نتوقف عن الكلام الفارغ والأحاديث العشوائية الضاربة في كل مكان وحدث دون تحديد بوصلة الهدف والغاية من تلك الحكاية أو الخبر، فليس مطلوبا منا أن ندلو بدولنا في كل شيء ونهرف بما لا نعرف في حقول علمية أو ثقافية أو اجتماعية لا نحسن الأداء فيها، بل تكون عقارب الوعي مضبوطة على النتائج المتوخاة من كل كلمة تصدر منا قبل النطق بها.
وقد تكون الكلمة صائبة وتقارب الحقيقة ولنا عليها مستند يوثقها، ولكنها كالسهم الثاقب تخرج جدار الاحترام والتقدير للآخر وتسبب له الأذى وجرح المشاعر، وأما التبجح بأنني لا أقول إلا الحقيقة مهما دفعت من أثمان فهو وهم، إذ أن تقبل الآخر لما تتحدث به دون أن يمس كرامته أو يهينه في شيء من خصوصياته مبدأ مهم في حسن التخاطب وتنمية العلاقات الاجتماعية، فكم من العلاقات تدمرت وأصيبت بالخراب بسبب إصابتها على وتر حساس وهو إيذاء مشاعر الآخر وكسر نفسه، بما يحوّل ساحة النقاش إلى مشهد ساخن تسوده الانفعالات الشديدة، ويتحول إلى ممر من المشاحنات والخصومات يسهل الولوج إليه.
كما أن الصمت في تأمل للأحداث والمواقف يعني بحثا عن الصورة الواقعية ومعرفة بالعوامل المؤدية لذلك والاحتمالات المتوقعة للنتائج، وبذلك يكون الصمت تغذية راجعة للعقل يستطيع من خلالها ترتيب الأوراق المبعثرة والمتناثرة بعيدًا عن التشتت والحيرة، فقراءة الواقع المعاصر بشكل واقعي يتيح الفرصة للفرد لوضع قدمه على السكة الصحيحة لأهدافه وآماله، وكمسيرة طبيعية متصلة بها هو الاستشراف الصائب للمستقبل وكيف سيكون عليه وجوده في تلك المرحلة.
وأما الصمت أثناء حديث الآخرين يعني حسن الاستماع وفهمًا لشخصية الآخر وما يحتويه من أفكار وسلوكيات، وهذا يفرز نتيجة مهمة وهي كيفية التخاطب وتقديم الأفكار وطريقة النقاش الذي يدور معه، فهذا الصمت ما هو إلا عملية إعداد تسبق أي حديث من خلال اختيار الكلمات المعبرة التي تتيح لها قبولًا في نفس المستمع مع مراعاة الظروف المناسبة لها، حيث قد يكون الكلام واقعيًا ومنطقيًا ولكن انعدام تأثيره يعود لسبب آخر هو وقوعه في غير محله بسبب الظرف الراهن، فالعلاقات الأسرية والاجتماعية الناجحة تعتمد بشكل رئيس على التخاطب الجيد، فكم من كلمة وقعت في غير محلها (غير مقصودة) سببت ألمًا وانكسارًا في نفس الآخر بسبب عدم مراعاة ظرفه أو حالته النفسية.
ولعلنا بصمتنا ونظراتنا الملأى بالكثير من الكلمات تكون أبلغ وأقوى في التأثير من كلمات نتفوه بها، فمن غير المعقول أن ندخل في حوار مع سفيه أو جاهل، أو نرد على كلام بعيد عن المنطقية والعقلائية لا يستحق الرد عليه، وحينئذ نسحب فتيل النزاع أو الدخول في مناكفات لا طائل منها، وندفع عن أنفسنا استنزاف قوانا النفسية، ونكبر في أعين الآخرين ونحوز على إكبارهم وثقتهم، لما أبديناه من حكمة و روية في موقف قد ينفعل فيه البعض وينساق إلى الخلافات والمشاجرات والعلاقات المتوترة.