مذكرات رغيف
عبدالباري الدخيل
كنت حبة قمح في سنبلة تختال في السماء، تراقصها الرياح، وتغازلها النجوم، ويراقبها المزارع بكل حب وإجلال.
ذات يوم جاء وحش عملاق يدعى الحصّادة فقطّع أوصال أسرتي الصغيرة، وجمعني بأشباهي في مكان كبير يشبه البئر، ثم قُسّمنا إلى مجموعات وحُشرنا في أكياس ضيقة.
كنت أنتقل في كيس كبير من مستودع إلى آخر، حتى وصلتُ لمكان يسمى الطاحونة.
دخلنا في مكنة كبيرة مزعجة، كنّا نصرخ من الألم بين فكيها، لكنّ أصواتنا ضائعة بجانب صوت هذا الوحش، وتحوّلنا من حبوب قمح إلى طحين ناعم، وذهبنا في كيس آخر إلى المخبز.
وضعنا الخباز في إناء كبير ثم أضاف الماء والملح وأشياء أخرى، وتحولنا لعجين ثم أقراص، ثم رمانا في النار لتلهب جوانبنا وتحرق بعضنا، وتجلدنا سياط لهبها لنتحول بعد لحضات لأرغفة خبز.
انتقلت مع أرغفة أخرى في كيس من المخبز للبقالة، ثم جاء رجل وأخذني مع أشياء أخرى ووضعني في سلة وذهب بي إلى منزل تحيط به حديقة جميلة.
وفي الصباح جلستْ على المائدة فتاة عشرينية، شعرها قصير، وعيناها تلمعان من السعادة.
مدت يدها دون أن تنظر ناحيتي، فعيناها مشغولة بمراقبة القادم ليشاركها الإفطار، ثم أمسكت بي وقسمتني إلى نصفين، أرجعت نصفًا في السلة وأمسكت بالآخر، ثم قطعت منه جزءً وغمسته في صحن اللبنة ورفعته إلى فم زوجها، ثم قطعت جزءً آخر فأمسكه من يدها وغمسه في القشطة، قالت: لا أريد قشطه بلا عسل.
قال وابتسامته تنير وجهه: أنت العسل الحقيقي.
أغمضت عينها وفتحت فمها، وانتظرت قطعة الخبز بكل سرور لكن القطعة لم تصل، وسمعته يضحك وقد تناول القطعة بدلًا عنها.
قالت: “يا نحيس”.
توقف عن الضحك وتناول قطعة خبز أخرى، وغمسها في العسل ثم القشطة وناولها إياها وهو يعبر لها عن أسفه لهذه المزحة.
جاءت العاملة بعد تناولهم الإفطار ورفعت ما على السفرة، ونحّت ما بقي من الخبز جانبًا.
في المساء وضعت النصف الذي بقي مني على سفرة عشاء أولادها.
تناولني أحد الأولاد، ثم رمى بي إلى السفرة وقال وقد كسره الحزن: خبز بائت أيضًا!
قالت: قل الحمد لله يا بني، هناك من لا يجد هذا الخبز.
تأفف وقد جمع يديه حول صدره كمن يحتضن حزنه.
قالت وهي تمسح على رأسه: هل تعلم يا ولدي أن هناك من لا يستطيع أكل نصف هذا القرص؟
نظر لها بتعجب ولم يتكلم.. فواصلت: نعم يا بني.. هناك من حرم بسبب المرض أن يأكل الخبز فتجده يجلس على المائدة وينظر للخبز بتحسّر.
ثم أمرت ابنتها أن تدخلني في الفرن بعد أن ترشني بقطرات ماء لعلي أعود طريًا.