زكريا أبو سرير
زكريا أبو سرير
ما أجملها من رحلة إيمانية رمضانية كنا ننتظرها بفارغ الصبر، وإذا بها تتصرم من بيننا دون أن نشعر بها، قضينا فيها أيام وليالي في العبادة والذكر الحكيم حتى اقتربنا لنهاية مطاف هــذه الرحلة الرمضانية المباركة، والثلث الأخير من الشهر الفضيل حسبما وردنا من الروايات الشريفة يشكِّل أعظم الأيام والليالي والأوقات في الشهر الفضيل، وقد خُصَّ الثلث الأخير من هذا الشهر الفضيل بليلة القدر وهي أعظم ليالي الشهر الكريم، وليلة القدر هــي خير من ألف شهر حين قال ربنا في الآية الثالثة من سورة القدر: “لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”. نعم هي ليلة القدر الشريفة التي يقدر فيها للعباد كل شيء، وهي فرصة ذهبية لا ينبغي تفويتها علينا، كما أنها دعــوة إلهية كريمة عامة من الخالق إلى كل العباد ، فمن ينتهــز هذه المنحة الكريمة فقد أفلح ومن فوتها فقد خسر.
ليلة القدرة الفضيلة ازداد فضلها عندما شرَّفها الله تعالى بنزول القرآن الكريم فيها على قلب خاتم الأنبياء محمد (ص) وأخفاها على العباد لكي يجتهدوا فيها بالتزود الروحي المنقطع له سبحانه، عبــر تكثيف الدعاء والعبادة الخالصة لوجه الكريم ولربما هذا واحد من أسرار إخفائها، كما لو كنا نتمنى أن تكون كل ليالينا وأيامنا طوال السنة كلها ليلة القدر حتى تسمو أرواحنا مع خالقها سبحانه مطمئنة راضية.
أوشكنا على نهاية الرحلة الرمضانية المباركة والضيافة الإلهية الكريمة، وقرب موعد مغادرة الشهر الكريم عنا والقلب يتفطر حزنًا وألمًا وحسرة ونسأل الله العود ثم العود إن شاء الله تعالى، وما نذكِّر به أنفسنا قبل غيرنا ونحن نودِّع شهر رمضان الفضيل بعد التزود الروحي والعبادي والفكري وقفة المحاسبة والمراجعة الذاتية مع الله سبحانه وتعالى، في النظر لأدوارنا الحياتية بدءًا من الجانب الأخلاقي والفكري والسلوكي والديني والثقافي بين الحين والآخر؛ لكي نتجاوز العقبات والصعوبات، ونتخطى بذلك الوقوع في الزلات ومنزلقات والخطايا الشيطانية، وإن تعثرنا لا سمح الله في بعض المواقف فبالمحاسبة الشخصية والاستغفار، فهناك ربٌّ عطوف وكريم أبوابه مشرعة لقبول التوبة في أية لحظة يتوجه فيها العبد إلى ربه؛ فأبواب الله مشرعة للتوابين والمستغفرين في الليل والنهار. قال الإمام الكاظم (ع ): “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيرًا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شيئًا شرًّا استغفر الله وتاب إليه”. {ميزان الحكمة – محمد الريشهري ج1 الصفحة 619}.
والمحاسبة تعني التغيير، والتغيير يعني القرار بكل ما يرتبط بمصير حياتنا، فشهر رمضان المبارك شهــر التغيير وأخذ القرار، والقرار يعني مرحلة تغييرية مصيرية في حياة الإنسان وهـو مرحلة انتقالية فكريًّا وسلوكيًّا، وربما تشكِّل هذه الانتقالية صعوبة في بعض الأحيان ولكن لا بد منها وإلا لم نستفد من تحليقنا في هذه الرحلة الرمضانية غير الجوع والعطش؛ لأن المطلب الرئيس من هذه الرحلة الإلهية هو التغيير أو التحسين من وضع الإنسان عبر الانتقال من المنطقة الظلامية الكاتمة إلى المنطقة التي تشع منها الأنوار الإلهية، فهي مرحلة حساسة وتحتاج شجاعة وقوة فولاذية من الإرادة الشخصية، فلا يفارقنا الشهر الكريم من دون الوقوف عند محاسبة النفس الصادقة لكي يتبلور صيامنا وقيامنا إلى عبادة صادقة مع ربنا، ونتاجها هو القرب من سبحانه في كل أبعاد حياتنا من تغيير أو تحسين في فكرنا وسلوكنا، وبعد ذلك تتعمق فينا الروح الرمضانية في كل شؤون حياتنا، وتصبح أيامنا طوال العام كلها أيام وليالٍ رمضانية وقدرية، وفي كل يوم لدينا عيد، ولا نكتفي بعيدٍ واحدٍ أو عيدين في السنة؛ لأن العيد الحقيقي مفهومه فلسفيًا هو أن يكون العبد في طاعة الله وامتثال أوامره في كل حين وليس فقط لفترة معينة من عمره.
وفي ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ١ – الصفحة ٦١٩، نجد تحت عنوان (محاسبة النفس) النصوص الآتية:
– قال تعالى: (ِللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(1).
– رسول الله (صلى الله عليه وآله): “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهزوا للعرض الأكبر”(2).
– الإمام الصادق (عليه السلام): “فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن أمكنة القيامة خمسون موقفًا، كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا هذه الآية: (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(3).
– رسول الله (صلى الله عليه وآله): “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، ومهِّدوا لها قبل أن تُعذَّبوا، وتزودَّوا للرحيل قبل أن تزعجوا، فإنما هو موقف عدل، واقتضاء حق، وسؤال عن واجب، وقد أبلغ في الإعذار من تقدم بالإنذار”(4).
– عنه (صلى الله عليه وآله): “يا أبا ذر! حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنه أهون لحسابك غدا، وزِن نفسك قبل أن تُوزن، وتجهز للعرض الأكبر يوم تُعرض لا يخفى على الله خافية”(5).
– لزوم محاسبة النفس في كل يوم – الإمام علي (عليه السلام): “ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل، يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها”(6).
– الإمام الصادق (عليه السلام): “حقٌّ على كل مسلم يعرفنا أن يعرض عمله في كل يوم وليلة على نفسه، فيكون محاسب نفسه، فإن رأى حسنة استزاد منها، وإن رأى سيئة استغفر منها لئلا يخزى يوم القيامة”(7).
– عنه (عليه السلام): “إذا أويت إلى فراشك فانظر ما سلكت في بطنك وما كسبت في يومك، واذكر أنك ميت وأن لك معادًا”(8).
– الإمام الكاظم (عليه السلام): “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل خيرًا استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شيئًا شرًّا استغفر الله وتاب إليه”(9).
________________________________________
(١) البقرة: ٢٨٤.
(٢) البحار: ٧٠ / ٧٣ / ٢٦.
(٣) أمالي المفيد: ٣٢٩ / ١.
(٤) أعلام الدين: ٣٣٩.
(٥) أمالي الطوسي: ٥٣٤ / ١١٦٢.
(٦) مستدرك الوسائل: ١٢ / ١٥٤ / ١٣٧٦١.
(٧) تحف العقول: ٣٠١.
(٨) البحار: ٧١ / ٢٦٧ / ١٧، دعوات الراوندي: ١٢٣ / ٣٠٢.
(٩) الاختصاص: ٢٦.